تاج روايه سيجارة لم تنطفئ في شارع سوريا

القائمة الرئيسية

الصفحات

روايه سيجارة لم تنطفئ في شارع سوريا

 



سيجارة لم تنطفئ في شارع سوريا

كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، لكن حي المهندسين لا ينام. أضواء النيون القادمة من المحلات في شارع "جامعة الدول" تنعكس على سماء الليل كحريق بعيد، وأبواق السيارات تعزف لحناً فوضوياً لا يتوقف.

روايه سيجاره لا تنطفئ في شارع سوريا
روايه سيجاره لا تنطفئ في شارع سوريا


روايات اخرى

في الطابق السابع من عمارة فخمة تطل على "شارع سوريا" الهادئ نسبياً، كان "شريف"، المحامي المتقاعد الذي يعاني من الأرق المزمن، يقف في شرفته ممسكاً بمنظاره المعظم. لم يكن يتلصص، بل كان يراقب إيقاع الشارع كعادته ليقتل الوقت. لكن انتباهه كان مشدوداً لشقة صديقه وجاره في العمارة المقابلة، "حازم بيه".

حازم، رجل الأعمال الوسيم، صاحب شركات الاستيراد، وزوجته "نها"، سيدة المجتمع الجميلة التي كانت حديث النوادي. الجميع يحسدهم على حياتهم المثالية.
في تلك الليلة، كانت ستائر شقة حازم مفتوحة، والإضاءة ساطعة. رأى شريف حازم يتحرك بعصبية في الصالة، يلوح بيديه، بينما نها تجلس على الأريكة ببرود، تدخن سيجارتها الرفيعة باستخدام "مبسم" عاجي طويل.

بدا وكأنه شجار زوجي معتاد. ترك شريف المنظار وذهب ليصنع كوباً من الشاي.
عندما عاد بعد عشر دقائق، كان المشهد قد تغير.
الإضاءة في شقة حازم انطفأت، ولم يتبق سوى ضوء خافت جداً يأتي من "أباجورة" في الزاوية.
رأى شريف ظلاً لرجل يرتدي معطفاً وقبعة (وهو أمر غريب في صيف القاهرة) يخرج من باب الشرفة الزجاجي للشقة، ويتسلق بمهارة مدهشة المواسير الخارجية ليهبط إلى الحديقة الخلفية ويختفي في الظلام.

"لص؟" همس شريف لنفسه. أمسك هاتفه ليتصل بحازم، لكنه تردد. ماذا لو كان مجرد عامل صيانة؟ أو ربما حازم نفسه يخرج متخفياً؟
لكن الفضول غلب المحامي العجوز. قرر أن يراقب.

بعد نصف ساعة، توقفت سيارة حازم الفارهة أسفل العمارة. نزل منها حازم، بكامل أناقته، وصعد.
مرت خمس دقائق.. ثم دوت صرخة. صرخة حازم.
فُتحت أضواء الشقة فجأة، وخرج حازم للشرفة يصرخ: "حرامي! الحقوني! نها اتقتلت!"

في غضون دقائق، كانت سيارات الشرطة تملأ شارع سوريا، وأشرطة صفراء تحيط بمدخل العمارة. نزل شريف بصفته جاراً وصديقاً ومحامياً سابقاً ليواسي حازم.
كان حازم يجلس على الرصيف، ينهار من البكاء، وحوله ضباط المباحث.
"كنت في سهرة عمل في (الزمالك) يا حضرة الضابط.. رجعت لقيت البلكونة مكسورة، والخزنة مفتوحة ومسروقة، ونها.. نها مخنوقة!" قال حازم وهو يدفن وجهه في يديه.

سأل الضابط: "هل تشك في أحد؟"
قال حازم بصوت متهدج: "أكيد السفرجي.. طردته الأسبوع الماضي لأنه كان يسرق، وهددني."

بدا كل شيء منطقياً. لص (أو موظف سابق) تسلق المواسير، وجد الزوجة، قتلها، سرق الخزنة وهرب. وشريف نفسه رأى الرجل يتسلق ويهرب. شهادة شريف ستكون طوق النجاة لحازم وتأكيداً لروايته.

صعد شريف مع الضابط وحازم إلى الشقة للمعاينة. كانت الفوضى تعم المكان. مزهريات مكسورة، كراسي مقلوبة، محتويات الخزنة ملقاة على الأرض. وجثة "نها" ممددة على الأريكة، وحول عنقها إيشارب حريري.
نظر شريف للضابط وقال: "فعلاً يا حضرة الضابط، أنا رأيت رجلاً يهرب من الشرفة قبل وصول حازم بنصف ساعة. حازم بريء."

تنفس حازم الصعداء، ونظر لشريف بامتنان: "شكراً يا شريف.. شهادتك أنقذتني."

لكن.. عين شريف المدربة، عين المحامي الذي قضى ثلاثين عاماً في محاكم الجنايات، التقطت تفصيلاً صغيراً.. تفصيلاً تافهاً جداً في وسط هذه الفوضى، جعلت معدته تتقلص.

على الطاولة الصغيرة (الترابيزة) أمام الأريكة التي قُتلت عليها نها، كانت هناك طفاية سجائر كريستالية.
وبداخل الطفاية، كان هناك عقب سيارة نها الرفيعة، التي رآها تدخنها قبل قليل.
السيارة كانت محترقة بالكامل حتى "الفلتر"، وتحولت إلى عمود طويل من الرماد المتماسك الذي لم يسقط.
سيارة كاملة.. تحولت لرماد دون أن يلمسها أحد.

تذكر شريف المشهد: نها كانت تدخن بعصبية، ثم حدث القتل، ثم "اللص" قلب الغرفة رأساً على عقب، كسر المزهريات، وقلب الكراسي في صراع عنيف مع الضحية (كما يبدو).

كيف؟
كيف دارت معركة عنيفة في الغرفة، وقُلبت الكراسي، وكُسرت التحف، بينما ظلت تلك السيجارة مشتعلة في الطفاية، تحترق ببطء وهدوء تام حتى تحولت لرماد متماسك دون أن يهتز ويسقط؟
لو كان هناك صراع حقيقي، لاهتزت الطاولة وسقط الرماد.
لو كان هناك لص غريب، لكانت نها قد ألقت السيجارة لتقاوم.

الاستنتاج ضرب عقل شريف كالبرق: لم يكن هناك صراع.
الفوضى "مفتعلة". تم ترتيبها بعناية وحذر شديد بعد القتل، لتجنب إسقاط رماد السيجارة الذي قد يكشف التوقيت.
وحازم.. حازم هو من فعل ذلك.
ولكن ماذا عن الرجل الذي هرب؟

اقترب شريف من حازم، وقال بصوت خافت جداً، حتى لا يسمعه الضابط: "حازم.. أنت ممثل بارع. لكنك نسيت الفيزياء."
نظر إليه حازم بذهول: "ماذا تقول؟"
أشار شريف بعينيه نحو الطفاية: "السيجارة يا حازم. عمود الرماد المتماسك يقول إن الغرفة كانت ساكنة تماماً أثناء احتراقها. الفوضى التي نراها.. الكراسي المقلوبة.. كلها حدثت بعد أن انطفأت السيجارة تماماً، وبهدوء شديد كي لا يسقط الرماد. أي صراع حقيقي كان سيدمر هذا الدليل الهش."

شحب وجه حازم، وبدأ العرق يتصبب من جبينه.
أكمل شريف بهمس قاتل: "والرجل الذي رأيته يهرب.. كان يرتدي معطفاً في عز الصيف ليخفي ملامحه؟ لا.. بل ليخفي (بدلته). ذلك لم يكن لصاً.. ذلك كان (أنت) يا حازم. قتلتها، رتبت الفوضى بحذر، ثم خرجت من الشرفة، نزلت للحديقة، غيرت ملابسك في سيارتك المركونة في الخلف، ثم عدت لتدخل من الباب الأمامي كزوج مفجوع."

حاول حازم أن يتكلم، أن ينكر، لكن نظراته الزائغة فضحته. نظر للسيجارة، ذلك الدليل التافه الذي دمر جريمته الكاملة. مد يده بعصبية ليحطم الطفاية ويخفي الدليل، لكن يد الضابط كانت أسرع، فقد لاحظ الحوار المتوتر.
"توقف مكانك!"

بعد ساعة، وفي قسم شرطة العجوزة، انهار حازم. اعترف أنه قتلها بسبب غيرته وشكوكه، وأنه خطط لكل شيء ليبدو كسرقة. الرجل الذي هرب كان هو بالفعل، استخدم لياقته البدنية ليتسلق وينزل، معتمداً على أن جاره شريف سيشهد برؤية "الهارب" فيبرئه. لم يتخيل أن سيجارة زوجته الأخيرة، التي تركتها تحترق ببطء وهي تلفظ أنفاسها، ستكون الشاهد الصامت الذي سيقوده للمشنقة.

عاد شريف لشقته في الفجر. وقف في الشرفة، وأشعل سيجارة. نظر لعمود الدخان المتصاعد في سماء المهندسين وقال لنفسه: "هيتشكوكي العزيز.. الشيطان يكمن في التفاصيل، وفي الرماد أيضاً."

للكاتب / هيتشكوك مصر

اهداء الى الكاتب الكبير واﻻعلامى العظيم=ابراهيم عيسي 

اهداء للكاتبه الكبيره فريده الحلوانى ومتابعيها

اشترك من هنا قصص لك الروايه اليوميه تابعنا اضغط من هنا👇

👇

👈👉
  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
طريقه نت

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق