تاج روايه الساعة التي توقفت عند نبضة واحدة

القائمة الرئيسية

الصفحات

روايه الساعة التي توقفت عند نبضة واحدة


الساعة التي توقفت عند نبضة واحدة

كانت الرياح تعوي خارج نافذة ورشة الساعات الصغيرة في منطقة "المنشية" بالإسكندرية، كأنها ذئاب جائعة تحاصر المدينة. "نادر"، الساعاتي الشاب، كان يجلس منحني الظهر فوق طاولة عمله المضاءة بمصباح أصفر خافت، يصلح ترساً دقيقاً في ساعة جيب أثرية. نادر لم يكن مجرد مصلح ساعات، بل كان عاشقاً للزمن، أو بالأحرى، عاشقاً للتحكم فيه. كان يؤمن أن الكون كله آلة دقيقة، وإذا فسدت، يمكن إصلاحها.

روايات رعب
روايه الساعه التي توقفت عند نبضه واحده

روايات رعب

رن جرس الهاتف الأرضي القديم بصوت مزعج كسر سكون الورشة. رفع نادر السماعة بضيق.
"ألو.. الأسطى نادر؟" صوت نسائي، لكنه ليس شاباً. صوت يحمل فخامة قديمة مهترئة، يشبه صوت فونوجراف قديم مشروخ. "أنا (عصمت هانم) من عمارة الشوربجي في محطة الرمل. البواب رشحك لي."
"تحت أمرك يا هانم، لكن الجو سيء جداً والورشة.."
قاطعته بلهجة آمرة لا تقبل النقاش: "الموضوع حياة أو موت يا بني. (هو) توقف عن الحركة. أحتاجك الآن. سأدفع لك خمسة أضعاف."


روايات اخرى

لم تكن "هو" كلمة معتادة لوصف ساعة، لكن نادر، مدفوعاً بفضول غامض وحاجته للمال، أغلق ورشته وارتدى معطفه الثقيل. استقل سيارة أجرة شقت طريقها بصعوبة عبر الكورنيش الغارق في مياه الأمواج التي تضرب الصخور بعنف.

وصل إلى عمارة "الشوربجي". كانت واحدة من تلك العمارات التراثية الشاهقة، ذات المداخل الرخامية الواسعة والأسقف العالية المزخرفة، لكن الزمن نال منها. المصعد الشبكي القديم كان معطلاً، فاضطر لصعود السلالم الرخامية المتآكلة حتى الطابق الخامس. كان المبنى صامتاً تماماً، وكأنه مهجور.

فتحت له "عصمت هانم" الباب. كانت سيدة في السبعينيات من عمرها، ترتدي فستاناً مخملياً أسود قديماً جداً، وتضع عقداً من اللؤلؤ حول عنق متغ


عذراً للانقطاع غير المقصود، يبدو أن "التروس" الخاصة بي توقفت للحظة تماماً مثل ساعة عصمت هانم.

سأكمل لك القصة فوراً من حيث توقفت، لنكمل مشهد الرعب في شقة الإسكندرية:


...حول عنق متغضن كجلد سلحفاة عجوز. كانت رائحة الشقة مزيجاً غريباً من العطر الفرنسي القديم النفاذ ورائحة شيء آخر.. شيء يشبه الرطوبة العفنة التي تسكن سراديب الموتى.

أشارت عصمت هانم بيد مرتعشة مغطاة بالخواتم نحو ممر طويل مظلم: "إنه في الداخل.. أرجوك، نبضه توقف، وأنا لا أستطيع التنفس بدونه."

دخل نادر الشقة، وفور إغلاق الباب، غاص في محيط من الأصوات. الشقة لم تكن تحتوي على أثاث بقدر ما كانت تحتوي على ساعات. مئات الساعات.. ساعات حائط، ساعات مكتب، ساعات "كوكو"، ومنبهات صغيرة. كلها تدق في آن واحد، لكن بإيقاعات غير متناغمة، مما يخلق سيمفونية من التوتر تصيب الإنسان بالجنون. تيك.. توك.. تيك.. تاك..

قادته السيدة إلى الصالة الرئيسية التي تطل على البحر الغاضب. في المنتصف، وقفت ساعة خشبية ضخمة (Grandfather Clock) من طراز إنجليزي نادر، يصل طولها للسقف تقريباً، مزخرفة بنقوش تبدو كوجوه بشرية تصرخ بصمت. كانت عقاربها متوقفة تماماً عند الساعة الحادية عشرة وإحدى عشرة دقيقة.

"هذا هو (منير)،" همست عصمت وهي تلمس الخشب المصقول بحنان مفرط. "لقد توقف فجأة. قلبه لا يدق."

شعر نادر بقشعريرة تسري في ظهره. كانت تتحدث عن الساعة وكأنها زوجها. فتح الحقيبة وأخرج أدواته، وحاول تجاهل جنون السيدة. فتح الباب الزجاجي للساعة للوصول إلى البندول والتروس الداخلية.
"سأحتاج لفتح الصندوق السفلي يا هانم لأفحص الثقل المعدني،" قال نادر وهو ينحني.

صرخت عصمت فجأة وأمسكت بكتفه بقوة مخيفة: "لا! إياك أن تلمس الجزء السفلي! العطل في القلب.. في التروس العلوية.. أصلح التروس فقط!"

تراجع نادر، مستغرباً من رد فعلها العنيف. "حسناً.. حسناً، سأفحص التروس."
سلط ضوء كشافه الصغير داخل آلية الحركة المعقدة. كانت التروس النحاسية نظيفة ولامعة بشكل مريب، وكأن أحداً يلمعها يومياً. بدأ يفحص الآلية بدقة، وسرعان ما وجد المشكلة.
كان هناك شيء "عضوي" محشور بين أصغر ترسين، يمنع الحركة.
استخدم ملقطه الدقيق لسحب الشيء العالق.
قربه من الضوء.. تجمدت الدماء في عروقه.

سقط الملقط من يد نادر وأحدث رنيناً عالياً على الأرضية الخشبية.
التفت ببطء إلى عصمت هانم، التي كانت تقف خلفه مباشرة، وفي يدها شمعدان نحاسي ثقيل، وعيناها تلمعان ببريق الجنون.
"قلت لك أصلحه.. لم أقل لك أن تنبش في أسراره،" قالت بصوت فحيح.

"ما هذا يا هانم؟" تراجع نادر للخلف حتى اصطدم بالحائط. "من أين جاء هذا الظفر؟ وماذا يوجد في الجزء السفلي من الساعة؟"

ابتسمت عصمت ابتسامة مائلة، وبدت في ضوء البرق القادم من النافذة كشيطانة عجوز.
"منير.. زوجي العزيز. كان يخاف من الوقت. كان يكره أن يرى عمره يضيع. وعدته أن أجعله خالداً. وعدته أن أضبط نبضه على إيقاع لا يتوقف أبداً."

بخطوات بطيئة، تقدمت نحو الساعة، وفتحت القفل السفلي الذي منعت نادر من لمسه.
انفتح الباب بصرير مفزع.
لم يكن هناك أثقال معدنية تتدلى لتشغيل الساعة.
كانت هناك "جثة".
جثة رجل محنطة بطريقة بدائية، واقفة داخل الصندوق الخشبي الضيق. بطنه مفتوحة، وتم توصيل أمعائه وأحشائه بأسلاك وجنازير دقيقة تتصل بآلية الساعة في الأعلى. كل دقة للتروس كانت تشد الأوتار الموصولة بجسده، فتجعل الجثة تهتز وكأنها تتنفس، وكأن الساعة تستمد طاقتها من بقايا جسده.

"كان يحاول الخروج،" قالت عصمت وهي تنظر للجثة بحب. "حاول خدش التروس بظفره ليوقف الزمن ويموت بسلام.. لكني لن أسمح له. أصلحه يا نادر.. أعد تشغيل منير!"

أدرك نادر أنه في مصيدة. الباب بعيد، والمرأة العجوز تسد الطريق، والمطر يغطي صراخه المحتمل.
"حاضر.. حاضر يا هانم،" قال نادر بصوت يرتجف، محاولاً استجماع شتات عقله. "لكن الظفر كسر الترس الرئيسي. أحتاج أن أنزل للسيارة لأحضر ترساً بديلاً من حقيبتي الكبيرة."

نظرت إليه بشك. "حقيبتك معك هنا."
"لا.. هذه حقيبة الأدوات الدقيقة. الترس الكبير في السيارة بالأسفل. سأعود فوراً.. أقسم لك، لن أترك منير هكذا."

ترددت لحظة، ثم نظرت إلى وجه زوجها المحنط وشعرت بالشفقة عليه لأنه "متوقف".
"معك خمس دقائق. إذا تأخرت.. سأجعلك جزءاً من المجموعة. لدي ساعة حائط في الغرفة المجاورة تحتاج لقلب شاب وقوي مثلك لتعمل."

ركض نادر. لم يركض في حياته كما ركض تلك الليلة. نزل السلالم الخمسة قفزاً، تعثر وسقط، ونهض والدماء تسيل من ركبته، لكنه لم يتوقف. خرج من باب العمارة إلى العاصفة، واستوقف أول سيارة رآها، وارتمى بداخلها يصرخ: "ابعد عن هنا! بسرعة!"

في اليوم التالي، اقتحمت الشرطة شقة عصمت هانم بعد بلاغ هستيري من نادر.
وجدوا الشقة فارغة من الحياة، لكنها مليئة بالموت.
عصمت هانم كانت تجلس على الكرسي أمام الساعة الضخمة.
كانت قد فتحت بطنها بمشرط، وحاولت توصيل نفسها بتروس ساعة "منير" لتكون معه للأبد.
توقفت كل الساعات في الشقة عن العمل في تلك اللحظة.. إلا ساعة واحدة.
كانت تدق ببطء وثقل مرعب.. تيك.. توك.. تيك.. توك..

ومنذ ذلك اليوم، إذا مررت بميدان المنشية ورأيت نادر الساعاتي، ستلاحظ أنه لا يرتدي ساعة أبداً، وإذا سمع صوت دقات ساعة حائط، يضع يديه على أذنيه ويغمض عينيه بقوة، محاولاً طرد صورة الظفر البشري الذي أوقف الزمن.


للكاتب / هيتشكوك مصر

اهداء الى الكاتب الكبير واﻻعلامى العظيم=ابراهيم عيسي 

اهداء للكاتبه الكبيره فريده الحلوانى ومتابعيها

اشترك من هنا قصص لك الروايه اليوميه تابعنا اضغط من هنا👇

👇

👈👉
  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
طريقه نت

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق