تاج روايه وليمة فوق النعش الكاتب هيتشكوك مصر

القائمة الرئيسية

الصفحات

روايه وليمة فوق النعش الكاتب هيتشكوك مصر

 

روايه وليمة فوق النعش الكاتب هيتشكوك مصر

كانت شمس الغروب الحمراء تغوص ببطء في مياه النيل، تلقي بظلالها القرمزية الطويلة عبر النوافذ الزجاجية العملاقة لشقة "مراد" الفاخرة في الطابق العاشر بحي الزمالك. الشقة كانت متحفاً صغيراً، مليئة بالتحف واللوحات الزيتية والسجاد الفارسي، تعكس ذوقاً رفيعاً وثراءً فاحشاً لوريث عائلة أرستقراطية قديمة.

في وسط الصالة الفسيحة، ساد صمت ثقيل، لا يقطعه سوى صوت لهاث مكتوم. كان "مراد"، الشاب الثلاثيني ذو الملامح الحادة والنظرة الباردة التي تشبه نصل السكين، يقف ماسحاً العرق عن جبينه بمنديل حريري. وعلى الأرض، بجواره تماماً، كان "سامي"، صديقه وشريكه في السكن، يجلس القرفصاء مرتجفاً كشجرة في مهب الريح، وعيناه مثبتتان برعب على الصندوق الخشبي العثماني الكبير المزين بالصدف والنحاس، والذي يتوسط الغرفة.

"لقد انتهى الأمر يا سامي.. توقف عن الارتجاف،" قالها مراد بصوت هادئ بشكل مرعب، وهو يغلق القفل النحاسي الضخم للصندوق.


روايه وليمة فوق النعش الكاتب هيتشكوك مصر



داخل ذلك الصندوق العتيق، الذي كان مخصصاً في الماضي لجهاز العرائس، يرقد الآن جثمان "عادل"، صديقهما الثالث، وزميلهما في الجامعة. قبل خمس دقائق فقط، كان عادل حياً، يضحك بسذاجته المعهودة، قبل أن يلتف حبل الستارة السميك حول عنقه في لحظة غدر متقنة خطط لها مراد ونفذها بمساعدة سامي المتردد. لم يكن الدافع مالاً ولا انتقاماً، بل كان دافعاً شيطانياً بحتاً؛ رغبة مراد في إثبات نظريته الفلسفية المريضة بأن "الأذكياء والنخبة" يحق لهم إنهاء حياة "الأغبياء وعديمي الفائدة" كنوع من الفن، ولارتكاب "الجريمة الكاملة".

"ولكن.. ولكن الضيوف سيصلون بعد قليل!" تمتم سامي بصوت مبحوح، وهو ينظر لساعته باضطراب. "والد عادل، وخطيبته نيفين، والأهم من ذلك.. الأستاذ رمزي! كيف سنستقبلهم والجثة هنا في وسط الغرفة؟"

ابتسم مراد ابتسامة جانبية ساخرة، وأشار بيده نحو الصندوق. "لن نخفي الصندوق يا سامي. بل سنجعله مركز الحفل."

اتسعت عينا سامي رعباً: "أنت مجنون! هل ستترك الصندوق هكذا؟"

"لا.. بل سنفرش عليه مفرش الدانتيل الأبيض، ونضع فوقه الشمعدانات الفضية، وأطباق المقبلات، وكؤوس العصير. سيتناولون طعامهم ويضحكون وهم لا يدركون أنهم يأكلون فوق قبر عادل." ضحك مراد ضحكة قصيرة خالية من المرح. "هذه هي قمة الجرأة.. قمة الفن."

تحرك مراد بخفة ونشاط غريبين. سحب المفرش الفاخر وغطى به الصندوق الخشبي الضخم، ثم بدأ يرص الأطباق والكؤوس الكريستالية فوقه بدقة متناهية. كان المشهد سريالياً؛ تحول التابوت المؤقت إلى مائدة بوفيه فاخرة. سامي كان يراقب المشهد وهو يشعر بغثيان، يفرك يديه ببعضهما البعض بعصبية لا تتوقف.

رن جرس الباب. انتفض سامي وكأن تياراً كهربائياً مسه.
"تماسك يا غبي!" همس مراد بحدة وهو يرمق سامي بنظرة تحذيرية. "لا تفضحنا. اشرب كأساً من الماء وتنفس."

فتح "عم عبده"، السفرجي العجوز، الباب ليدخل الضيوف. كانت "نيفين"، خطيبة عادل، فتاة رقيقة ذات جمال هادئ، دخلت وهي تتلفت حولها قائلة: "غريبة.. عادل ليس هنا؟ اتفقنا أن نتقابل عندكم."
تبعها والد عادل، "الحاج شكري"، رجل أعمال وقور يرتدي بدلة كلاسيكية ويمسك مسبحة في يده. "مساء الخير يا شباب. أين عادل؟ هاتفه مغلق منذ ساعة."

تقدم مراد بكل ثقة، وصافحهم بابتسامة ساحرة: "لا تقلقوا، عادل اتصل بي وقال إنه سيتأخر قليلاً بسبب زحام كوبري 6 أكتوبر، تعرفون زحام القاهرة في هذا الوقت. تفضلوا، تفضلوا."

ثم دخل آخر الضيوف، والشخص الذي يخشاه مراد ويحترمه في آن واحد. "الأستاذ رمزي"، أستاذ الفلسفة السابق بالجامعة، رجل في الستينيات من عمره، ذو شعر فضي ونظرة ثاقبة كالصقر، وعرج خفيف في ساقه يستند بسببه على عكاز بمقبض عاجي. كان رمزي هو من علمهم تلك النظريات الفلسفية عن "الإنسان الأعلى"، لكن مراد حرفها لتناسب جنونه.

"مساء الخير يا سادة،" قال رمزي بصوته الرخيم، وعيناه تمسحان الغرفة بذكاء معتاد. توقفت عيناه للحظة عند سامي الذي كان يقف في الزاوية، وجهه شاحب كالموتى. "ما بك يا سامي؟ تبدو وكأنك رأيت شبحاً."

تلعثم سامي: "لا.. لا شيء يا أستاذ رمزي. مجرد.. مجرد صداع نصفي."
تدخل مراد بسرعة: "سامي يتدرب على البيانو منذ الصباح لكونسرت الأوبرا القادم، أعصابه مشدودة قليلاً. تفضلوا، العشاء جاهز."

قادهم مراد بجرأة لا تصدق نحو الصندوق العثماني. تحلق الضيوف حول "المائدة"، وبدأوا يلتقطون المقبلات. وضعت نيفين كأس عصيرها فوق سطح الصندوق، تماماً فوق الموضع الذي يرقد تحته رأس خطيبها. شعر سامي أن قلبه سيتوقف، وأدار وجهه للناحية الأخرى مدعياً أنه ينظر للنيل.

دار الحوار بشكل تقليدي في البداية، لكن مراد، مدفوعاً بنشوة القاتل الذي يظن أنه الأذكى، بدأ يوجه الحديث نحو مناطق خطرة.
قال مراد وهو يقطع قطعة من الجبن: "كنا نتناقش أنا وسامي قبل وصولكم عن الجريمة. ألا تظن يا أستاذ رمزي أن هناك بشراً متميزين، عباقرة، لا يجب أن تطبق عليهم القوانين العادية؟ القوانين وُضعت للعامة، لضبط القطيع، لكن النخبة.. يحق لهم ما لا يحق لغيرهم."

قطب الحاج شكري جبينه وقال بضيق: "ما هذا الكلام يا بني؟ الروح غالية عند خالقها، القتل هو القتل، سواء قام به جاهل أو عالم."
ابتسم رمزي بمكر، وقد استشعر شيئاً غريباً في نبرة مراد، ورد قائلاً: "نظرياً يا مراد، الفلاسفة ناقشوا هذا. لكن الفارق بين النظرية والتطبيق هو الفرق بين الجنون والعقل. من الذي يحدد من هم النخبة؟ القاتل نفسه؟ هذا غرور يقود للهلاك."

لاحظ رمزي أن يدي سامي ترتجفان بشدة وهو يحاول إشعال سيجارته، حتى سقطت القداحة من يده. انحنى رمزي ليلتقطها، واقترب وجهه من الصندوق. شم رائحة خفيفة.. ليست رائحة طعام. إنها رائحة حبل القنب الجديد، ممزوجة برائحة عطر عادل المفضل الذي يعرفه جيداً. اعتدل رمزي في وقفته، وبدأ الشك يتسرب إلى عقله الحاد.

"أين عادل حقاً؟" سألت نيفين بقلق متزايد. "الساعة تجاوزت التاسعة. هذا ليس من طبعه."
قال مراد ببرود: "ربما قابل صديقاً قديماً، أو ربما.. قرر الهروب من التزامات الخطوبة والزواج، من يدري؟"
نظرت إليه نيفين بصدمة: "ماذا تعني؟ عادل يحبني!"
قال سامي فجأة بصوت عالٍ هستيري: "هو لا يقصد ذلك يا نيفين! مراد يمزح.. مجرد مزاح سخيف!" ثم أمسك بكأسه وشربها دفعة واحدة حتى سكب العصير على قميصه.

ساد الصمت والتوتر في الغرفة. كانت تصرفات سامي تصرخ بأن هناك خطباً ما. وتلميحات مراد الفلسفية كانت وقحة ومريبة.
بدأ الأستاذ رمزي يربط الخيوط. غياب عادل المفاجئ.. توتر سامي الهستيري.. نظرات مراد المتحدية.. وهذا الصندوق. لماذا وضعوا الطعام فوق هذا الصندوق القديم بينما توجد طاولة سفرة فاخرة في الغرفة المجاورة؟

عندما همّ الضيوف بالمغادرة، شعرت نيفين والحاج شكري بخيبة أمل كبيرة لعدم حضور عادل. ودعهم مراد عند الباب بابتسامة المنتصر. لكن رمزي، وهو يرتدي معطفه، قال فجأة: "آه، لقد نسيت علبة سجائري في الداخل."
قال مراد: "سأحضرها لك."
"لا داعي، أعرف مكانها." عاد رمزي إلى الصالة. كان سامي ومراد قد بقيا وحدهما.

دخل رمزي ووجد سامي يبكي بصمت في الزاوية، ومراد يشعل سيجاراً ويصب لنفسه كأساً احتفالياً.
نظر رمزي إليهما طويلاً، ثم قال بصوت كفحيح الأفعى: "لماذا لم يأتِ عادل يا مراد؟"
أجاب مراد ببرود: "قلت لك، لا أعرف."
ضرب رمزي الأرض بعكازه صرخة مدوية: "كاذب! أنت وسامي تتصرفان كالمذنبين منذ دخلنا. والآن، أريد أن أعرف.. لماذا نقلتم مكان الصندوق؟ ولماذا أصررت أن نأكل فوقه؟"

تقدم رمزي نحو الصندوق. قفز مراد ليعترض طريقه، ويده تمتد إلى جيبه الخلفي، ربما ليخرج سلاحاً أو أداة أخرى.
"لا تلمسه يا أستاذ رمزي. هذا ملكية خاصة."
نظر رمزي في عيني تلميذه السابق، وقال بتحدٍ: "هل تظن نفسك ذلك (الإنسان الأعلى) الذي كنا نتحدث عنه؟ تظن أنك فوق الشبهات؟"

في تلك اللحظة، انهار سامي. صرخ بصوت مزق سكون الليل: "لقد فعلناها! إنه في الصندوق! أخبرته ألا يفعل ذلك.. أخبرته!"
تسمر مراد في مكانه، ونظر باشمئزاز لسامي: "أيها الجبان الوغد!"

دفع رمزي مراد جانباً بعنف لم يتوقعه الشاب من الرجل العجوز، ورفع الغطاء الثقيل للصندوق، وسحب المفرش والأطباق التي تناثرت على الأرض محدثة ضجيجاً مروعاً من الكريستال المحطم.

شهق رمزي وهو يرى جسد عادل الملتوي داخل الصندوق، والحبل لا يزال حول عنقه. تراجع للخلف، وجهه شاحب من هول الصدمة، ليس فقط من الجريمة، بل من الوحشية والبرود الذي تعامل به تلاميذه.

جلس مراد على أقرب كرسي، يشعل سيجاره بلامبالاة مصطنعة، بينما هو يرتجف من الداخل: "حسناً يا أستاذ. لقد اكتشفتنا. لكن ألا ترى العظمة في ذلك؟ لقد قتلناه، وأكلنا فوقه، ولم يلاحظ أحد إلا أنت. ألست فخوراً؟ ألست أنت من علمتنا أن الأخلاق قيود للضعفاء؟"

نظر إليه رمزي باحتقار شديد، وعيناه تدمعان: "أنا علمتكم الفلسفة، لم أعلمكم أن تكونوا سفاحين. ما فعلتموه ليس عظمة.. ليس (إنساناً أعلى).. إنه مجرد قذارة. جريمة دنيئة، غبية، وحشية. خنقتم صديقكم بدم بارد من أجل ماذا؟ من أجل الشعور بالإثارة؟"

تحرك رمزي نحو النافذة الكبيرة المطلة على النيل. كانت القاهرة تتلألأ بالأضواء في الخارج، حياة كاملة تسير بشكل طبيعي بينما الموت يقبع هنا.
سحب مراد مسدساً صغيراً من جيبه ووجهه نحو رمزي: "لا تفتح النافذة."
نظر إليه رمزي بثبات: "عليك أن تقتلني أنا أيضاً يا مراد. هل ستتسع الشقة لمزيد من الجثث؟ هل ستدعونا لحفلة أخرى غداً فوق جثتي؟"

ارتجفت يد مراد. سقط قناع "القاتل العبقري"، وظهر وجه الشاب الخائف المذعور. أدرك أن نظرياته سقطت عند أول اختبار للواقع. لم يستطع ضغط الزناد. رمى المسدس على الأرض وانخرط في نوبة ضحك هستيرية.

فتح رمزي النافذة، والتقط مسدسه الخاص المرخص الذي يحمله دائماً، وأطلق ثلاث طلقات في الهواء لكسر صمت حي الزمالك الراقي وجذب انتباه الشرطة والدوريات المارة في الشارع بالأسفل.
ثم التقط هاتفه، واتصل بالشرطة بصوت متهدج ولكن حازم: "أرسلوا سيارة إلى شارع محمد مظهر.. نعم.. جريمة قتل.. والجاني ينتظركم."

جلس رمزي على حافة الصندوق المفتوح، بجوار جثة تلميذه الضحية، وأمام تلميذيه القاتلين، ينتظر صوت سارينة الشرطة التي بدأت تعلو في الأفق، ممزقة هدوء الليل، معلنة نهاية الحفلة، ونهاية حياة ثلاثة شبان دمرهم الغرور. كانت الستائر تتحرك ببطء مع نسمات هواء النيل الباردة، وكأنها تلفظ أنفاس الشقة الأخيرة. انهت القصه

روايات أخرى 

للكاتب

للكاتب / هيتشكوك مصر

اهداء للكاتبه الكبيره فريده الحلوانى ومتابعيها

اشترك من هنا قصص لك الروايه اليوميه تابعنا اضغط من هنا👇

👈
  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
طريقه نت

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق