مرت الليالي الأولى هادئة، باستثناء الحرارة التي لا تطاق. ولكن في الليلة الرابعة، بدأ الكابوس.
استيقظ عصام في الثالثة فجراً على صوت غريب. لم يكن صراخاً، ولم يكن همساً. كان صوت "دحرجة". كأن كرات حديدية ثقيلة تتدحرج على الأرضية الخشبية في الشقة التي تعلوه مباشرة.. الشقة في الطابق الرابع "المغلق".
"تـك.. تـك.. كرررررر.."
كان الصوت يتحرك ببطء، يتوقف فوق سريره تماماً، ثم يكمل مسيره نحو الحمام.
حاول عصام إقناع نفسه بأنها أنابيب المياه القديمة، أو ربما فئران ضخمة. لكن الصوت كان منتظماً بذكاء بشري.
في صباح اليوم التالي، وبينما كان يغادر، رأى بقعة داكنة تتسرب من سقف الحمام. سائل لزج بني اللون ورائحته كريهة تشبه رائحة اللحم الفاسد المعالج كيميائياً. صعد إلى السطح ليتحقق، لكنه وجد البوابة الحديدية المؤدية للطابق الرابع مغلقة بسلاسل وجنزير ضخم يعلوه الصدأ.
اقترب من البوابة، ووضع أذنه على الحديد البارد. سمع صوتاً مجمداً للدماء. صوت لهاث.. لهاث سريع ومتعطش، وكأن شخصاً يركض في مكانه، متبوعاً بصوت شحذ سكين على حجر.. شيك.. شيك.. شيك.
نزل عصام مسرعاً وواجه عم عثمان في المدخل المظلم.
"عم عثمان! هناك شخص في الطابق الرابع. أنا أسمع أصواتاً، وهناك تسريب قذر ينزل عليّ!"
تغير وجه عثمان، واهتزت عينه السليمة برعب حقيقي. أمسك ذراع عصام بقوة غير متوقعة من رجل في سنه: "اسمع يا دكتور.. لمصلحتك.. لمصلحتك لا تسأل. هذا (الخواجة ديمتري) رجع من السفر.. هو يحب الهدوء. لا تزعجه."
"ديمتري؟ قلت لي إن الشقة مغلقة!"
"عاد البارحة ليلاً.. ارتح يا بني ولا تتدخل فيما لا يعنيك."
عاد عصام لعمله، لكن الشك كان ينهشه. في المشرحة، كان يرى الجثث طوال اليوم، لكن ما يشعره في عمارة "البارون" كان "موتًا" من نوع آخر.. موت حي.
قرر عصام أن يتقمص دور المحقق. بحث في سجلات الحي القديمة عن العمارة. اكتشف خبراً قديماً في جريدة صفراء يعود للسبعينيات: "اختفاء غامض لعائلة الخواجة ديمتري، صانع الدمى الشهير، بعد حريق محدود في شقته بالظاهر."
في تلك الليلة، عاد عصام للشقة وهو يحمل مشرطه الطبي ومصباحاً قوياً. انتظر حتى انتصف الليل. عاد صوت الدحرجة، ولكن هذه المرة كان مصحوباً بصوت أنين مكتوم، كأن شخصاً يحاول الصراخ وفمه مكمم.
لم يعد يحتمل. خرج إلى السلم، ومعه "أجنة" حديدية وجدها في صندوق العدة. وقف أمام بوابة الطابق الرابع. كانت السلاسل قديمة، وبضربات قوية ومدروسة، كسر القفل الصدئ.
سقطت السلسلة بضجيج مكتوم. دفع البوابة الحديدية، فصرخت مفصلاتها في سكون الليل وكأنها تحذره للمرة الأخيرة.
دخل الطابق الرابع. كان الظلام دامساً، والهواء ثقيلاً جداً، مشبعاً برائحة "الفورمالين" (مادة حفظ الجثث) بشكل لا يطاق، لدرجة أن عينيه دمعتا.
سلط ضوء المصباح على الممر الطويل. الأرضية كانت مغطاة بطبقة سميكة من الغبار، لكن.. كانت هناك آثار أقدام حديثة. أقدام حافية، كبيرة الحجم، ومشوهة.
على الجدران، كانت هناك مئات الصور المعلقة. اقترب عصام ليرى. كانت صوراً لعيون.. فقط عيون. عيون بشرية، عيون قطط، عيون بقر.. مرسومة بدقة مرعبة، وبعضها صور فوتوغرافية قديمة.
وصل إلى باب الشقة المفتوح جزئياً. دفع الباب ودخل الصالة.
تجمد عصام في مكانه. الصالة كانت ممتلئة بـ "الدمى". لكنها لم تكن دمى عادية. كانت بحجم البشر الطبيعيين، تجلس على الكراسي، تقف بجوار النافذة، تجلس حول مائدة الطعام.
اقترب عصام من "دمية" تجلس على الأريكة وترتدي فستان زفاف قديماً متهالكاً. وجه ضوء المصباح إلى وجهها.
شهق شهقة رعب كادت تمزق رئتيه.
لم يكن وجهاً مصنوعاً من الشمع أو البلاستيك. كان جلداً بشرياً حقيقياً، مصفراً ومشدوداً بعناية فائقة فوق هيكل، والعيون.. العيون كانت زجاجية لامعة تحدق فيه بفراغ مرعب.
فجأة، انطفأ مصباحه اليدوي. ضربه بيده ليعمل، فعاد الضوء متقطعاً. وفي تلك الومضات المتقطعة، لاحظ شيئاً جعل قلبه يتوقف.
الدمى.. تغيرت أماكنها.
الدمية التي كانت عند النافذة، أصبحت الآن أقرب إلى وسط الغرفة.
والتي كانت على المائدة.. رأسها استدار نحوه.
سمع صوت الضحكة المكتومة تأتي من خلفه، من اتجاه المطبخ.
"أنت فضولي جداً يا دكتور عصام.. مثل الباقين."
استدار عصام ليجد "عم عثمان" يقف هناك، لكنه لم يعد الرجل العجوز المنحني. كان يقف منتصباً، يرتدي مريلة جزار جلدية ملطخة بالدماء القديمة والجديدة، وفي يده مشرط ضخم خاص بالتحنيط.
"عثمان؟ أنت الخواجة ديمتري؟" صرخ عصام وهو يتراجع للخلف، متعثراً في إحدى الجثث المحنطة.
ابتسم عثمان ابتسامة كشفت عن أسنان مسوسة ومدببة: "ديمتري كان فناناً، علمني الصنعة قبل أن يصبح هو نفسه تحفتي الأولى. الناس ترحل، يا دكتور.. تهجرنا، تموت، تتغير. لكن (التحنيط) هو الخلود. أنا أصنع عائلة لا تتركني أبداً."
أشار عثمان بيده إلى ركن مظلم في الغرفة: "وهذا.. هذا هو ابني البكر."
من الظلام، خرج شيء يزحف. لم يكن دمية محنطة بالكامل، بل كان كائناً بشرياً مشوهاً، جلده مغطى بقطب جراحية خشنة، وفمه مخيط بخيوط سوداء، وأطرافه تم استبدال بعضها بأطراف خشبية ومعدنية، تجعله يصدر ذلك الصوت.. تـك.. تـك.. كرررررر . كان حياً، ولكنه مسجون داخل جسد نصفه ميت ونصفه دمية.
"هجوم!" صرخ عثمان.
ركض عصام نحو باب الشقة، لكن عثمان اعترض طريقه، ملوحاً بالمشرط.
"لن تخرج! أنت تملك بنية جسدية ممتازة.. ستكون (العريس) الجديد لابنتي!" وأشار لدمية العروس الجالسة.
دخل الاثنان في عراك مميت. كان عثمان قوياً بشكل جنوني، مدفوعاً بلوثة عقلية. جرح عصام في كتفه، وسال الدم حاراً.
تذكر عصام زجاجات الفورمالين المرصوصة على الرف بجواره. التقط واحدة وحطمها فوق رأس عثمان.
صرخ العجوز بينما السائل الحارق يملأ عينيه وأنفه، ويشعره بالاختناق والعمى المؤقت.
وصل عصام إلى الشارع، وسقط لاهثاً تحت ضوء العمود الأصفر. الناس تجمعوا حوله، والدماء تغطي قميصه.
عندما وصلت الشرطة واقتحمت الشقة، وجدوا "متحف الرعب" كما وصفه عصام. عشرات الجثث المحنطة لأشخاص اختفوا على مدار عشرين عاماً، تم تشكيلهم في أوضاع حياتية طبيعية.
لكن الرعب الحقيقي.. الرعب الذي جعل عصام يستقيل من الطب الشرعي ويغادر القاهرة للأبد.. لم يكن الجثث.
الشرطة لم تجد "عثمان" ولا "المسخ الزاحف".
وجدوا فقط نافذة خلفية مفتوحة تطل على منور ضيق ومظلم يؤدي إلى سراديب الصرف الصحي القديمة للقاهرة.
وعلى حافة النافذة، وجدوا رسالة مكتوبة بالدم على ورقة قديمة:
ومنذ ذلك اليوم، يعيش عصام في قرية نائية، يغلق نوافذه بالخشب والمسمار، ولا ينام أبداً في الظلام. لكن في الليالي الصيفية الحارة، عندما يسود الصمت، يقسم أنه يسمع صوتاً يأتي من سقف غرفته..
وعندما ينظر في المرآة، يشعر أن عينيه ليستا ملكه، وأنهما مجرد زجاج بارد ينتظر من يقتلعه ليضعه في رأس دمية جديدة.
للكاتب / هيتشكوك مصر
اهداء الى الكاتب الكبير واﻻعلامى العظيم=ابراهيم عيسي
اهداء للكاتبه الكبيره فريده الحلوانى ومتابعيها
اشترك من هنا قصص لك الروايه اليوميه تابعنا اضغط من هنا👇
.webp)

تعليقات: (0) إضافة تعليق