تاج صدى فيينا الأخير

القائمة الرئيسية

الصفحات

صدى فيينا الأخير


صدى فيينا الأخير

كانت فيينا ترتدي معطفاً أبيض ثقيلاً من الثلج، ونهر الدانوب يبدو كشريط من الفولاذ الرمادي الجامد الذي يقسم المدينة إلى نصفين. في الطابق الأربعين من برج "نيورو-كورب" (Neuro-Corp) الزجاجي، كان الدكتور "آدم"، عالم الأعصاب المصري المغترب، يقف أمام جدار ضخم من الشاشات، يراقب تدفق البيانات الزرقاء التي تمثل النشاط العصبي لمئات المتطوعين في مشروع "المدينة الآمنة".


روايات خيال علمى
صدى فيينا الأخير 



لم يكن آدم مجرد عالم، بل كان "مراقباً" بالمعنى الحرفي. المشروع الذي يعمل عليه يهدف إلى ربط كاميرات المراقبة في الشوارع بالنشاط العصبي للمتطوعين لتوقع الجرائم قبل حدوثها بناءً على ارتفاع معدلات الأدرينالين والنية العدوانية. كانت فكرة ثورية، لكنها جعلت آدم يشعر وكأنه إله صغير، أو متلصص يمتلك رخصة علمية.

الساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. المبنى شبه فارغ إلا من همهمة الخوادم (Servers) وأصوات التكييف المركزي. كان آدم يرتشف قهوته الساخنة وعيناه تتنقلان بملل بين الشاشات. المتطوع رقم 405 يحلم بوجبة دسمة، المتطوع رقم 112 يعاني من أرق، ورقم 89...

توقف آدم. تجمد فنجان القهوة في يده.
على الشاشة المخصصة للمتطوع رقم 89، لم تكن هناك مجرد بيانات عصبية. النظام الجديد كان يترجم الإشارات البصرية من القشرة الدماغية إلى صور مشوشة لكنها قابلة للتمييز. ما رآه آدم لم يكن حلماً.
كانت "رؤية" من عيني المتطوع 89. يداه تمتدان.. ترتديان قفازات جلدية سوداء.. تمسكان بعنق امرأة شقراء ترتدي معطفاً أحمر قانياً. الخلفية كانت واضحة: عجلات "راتهاوس" (Rathaus) الشهيرة، مبنى البلدية في فيينا، والساعة الكبيرة تظهر بوضوح.
ارتفع مؤشر "العدوانية" إلى اللون الأحمر القاتم. ثم فجأة.. انقطع الاتصال. وساد خط مستقيم على الشاشة.

هل ماتت؟ أم أن المتطوع فصل الجهاز؟
والأهم.. هل حدث هذا الآن؟ أم أنها ذكرى؟
راجع آدم الطابع الزمني. (توقيت حي - تأخير 0.02 ثانية).
هذا يحدث الآن. شخص ما، يرتدي جهاز الشركة، يقتل امرأة أمام مبنى البلدية.

لم يفكر آدم مرتين. اتصل بـ "كلاوس"، مدير الأمن في الشركة.
"كلاوس! المتطوع 89.. هناك جريمة قتل تحدث الآن! أرسل الشرطة إلى ساحة الراتهاوس!"
جاء صوت كلاوس هادئاً بشكل مريب، وميكانيكياً: "دكتور آدم.. اهدأ. الرقم 89 هو مجرد محاكاة للذكاء الاصطناعي لاختبار النظام. لا يوجد متطوع حقيقي بهذا الرمز. اذهب للمنزل، أنت مرهق."

أغلق كلاوس الخط.
جلس آدم مشدوهاً. محاكاة؟ لكن التفاصيل كانت حقيقية جداً. بخار النفس الخارج من فم الضحية، انعكاس ضوء الشارع على الثلج، والرعب في عينيها. هيتشكوك علمه أن يثق بغريزته، وغريزته تصرخ بأن هذه لم تكون محاكاة.

قرر آدم أن يفعل شيئاً متهوراً. سحب "اللوغاريتم" الخاص بموقع المتطوع قبل انقطاع الإشارة، ونسخه على ساعته الذكية، وخرج مسرعاً من الشركة.
كان الهواء في الخارج يلسع الوجه كالإبر الجليدية. ركب سيارته وانطلق عبر شوارع فيينا الخالية، وعجلات السيارة تطحن الثلج المالح.

وصل إلى ساحة "الراتهاوس". كانت الساحة واسعة، مهيبة، ومضاءة بأضواء صفراء خافتة. السكون يلف المكان. نزل آدم وبدأ يبحث. لا جثث، لا دماء، لا شرطة. فقط الثلج البكر.
"هل جننت يا آدم؟" همس لنفسه. "كلاوس كان محقاً.. مجرد محاكاة."

استدار ليعود لسيارته، لكن ضوءاً خافتاً لفت انتباهه خلف أحد أكشاك سوق عيد الميلاد المغلقة. مشى بحذر، قلبه يدق بعنف. خلف الكشك، وجد شيئاً لامعاً نصف مدفون في الثلج.
انحنى ليلتقطه. كان "قرطاً" نسائياً ذهبياً على شكل دمعة.. تماماً كالذي رآه في الأذن اليمنى للمرأة في الشاشة.
وليس بعيداً عنه، كانت هناك آثار أقدام تم مسحها بعناية، ولكن الثلج المتساقط حديثاً لم يغطيها بالكامل بعد.
"إنها حقيقية.." تمتم آدم برعب. "وهم ينظفون المكان."

فجأة، رن هاتفه. رقم مجهول.
"أنت تحتفظ بشيء ليس لك يا دكتور." صوت أجش، معدني، مشوه إلكترونياً.
"من أنتم؟ أين المرأة؟"
"انظر للأعلى."

رفع آدم رأسه. على سطح مبنى مجاور، رأى خيالاً أسود يقف ساكناً كتمثال، وعين حمراء صغيرة تلمع.. ليزر قناص.
رمى آدم نفسه خلف الكشك الخشبي في اللحظة التي اخترقت فيها رصاصة صامتة المكان الذي كان رأسه فيه قبل ثانية، لتنغرس في الثلج وتذيبه.

بدأت المطاردة. لم تكن مطاردة سيارات، بل مطاردة "بيانات" وواقع. ركض آدم نحو محطة المترو القديمة "شوتينتور". نزل السلالم ركضاً، وقفز فوق البوابة. الرصاصة الثانية حطمت الزجاج بجواره. القاتل ليس بشرياً عادياً.. إنه يتحرك بدقة الآلة.
دخل آدم القطار في اللحظة الأخيرة قبل إغلاق الأبواب. تنفس الصعداء، ونظر للركاب القلائل. عجوز يقرأ جريدة، وشاب يضع سماعات.
لكن آدم، بحكم عمله، لاحظ شيئاً في الشاب. الشاب لا يرمش. عيناه ثابتتان، وهناك ضوء أزرق خافت جداً ينبض تحت جلده خلف أذنه.
"نيورو-لينك".. الشريحة التي تطورها الشركة.
أدرك آدم الحقيقة المرعبة. الشركة لا تراقب المجرمين.. الشركة "تصنعهم". تستخدم المتطوعين كأوعية، تتحكم في أجسادهم عن بعد لتنفيذ اغتيالات، ثم تمحو ذاكرتهم. المتطوع 89 لم يكن قاتلاً.. كان مجرد دمية، والآن هذا الشاب في المترو تم تفعيله ليقتل آدم.

وقف الشاب ببطء، وأخرج مسدساً مزوداً بكاتم للصوت من معطفه، بحركة ميكانيكية خالية من أي تردد أو عاطفة.
ضغط آدم زر الطوارئ في القطار، وتوقف القطار بفرملة عنيفة جعلت الشاب يختل توازنه ويسقط المسدس. انقض آدم عليه، ليس ليضربه، بل ليضغط على الشريحة المزروعة خلف أذنه بقوة. كان يعرف نقطة الضعف، "زر إعادة التشغيل القسري".
تشنج الشاب، واتسعت عيناه، ثم سقط مغشياً عليه.

فُتحت أبواب القطار في منتصف النفق. نزل آدم وركض في الظلام، متبعاً أضواء الطوارئ. كان عليه أن يصل إلى مكان واحد: "البراتر" (The Prater)، الملاهي الشهيرة، حيث يوجد البرج القديم للإرسال الذي يمكنه منه بث البيانات التي سجلها على ساعته لكل وكالات الأنباء، ليفضح المشروع.

وصل آدم إلى الملاهي المهجورة في الفجر. العجلة الدوارة العملاقة (Riesenrad) تقف صامتة كوحش حديدي. تسلق برج الإرسال المجاور، وأصابعه تتجمد من البرد.
وصل البيانات، وبدأ التحميل. 10%.. 30%..
سمع صوت خطوات معدنية ثقيلة على السلم خلفه.
التفت ليجد "كلاوس" مدير الأمن، لكنه لم يكن وحده. كان يرتدي بدلة "هيكل خارجي" (Exoskeleton) عسكرية، تمنحه قوة وسرعة فائقة.
"كان يجب أن تبقى في مكتبك وتستمتع بالقهوة يا آدم،" قال كلاوس ببرود، وهو يكسر قفل الباب الحديدي للسطح بيد واحدة.
"مشروع المدينة الآمنة كذبة!" صرخ آدم، وهو يرى شريط التحميل يصل لـ 80%. "أنتم تبيعون القتلة المأجورين المثاليين. قتلة بلا ذاكرة!"

ضحك كلاوس، وتقدم نحوه: "نحن نبيع (النظام). العالم فوضوي، ونحن نفرض النظام. التضحية ببضعة أشخاص، مثل تلك الصحفية الفضولية في المعطف الأحمر، هو ثمن بخس."
سدد كلاوس لكمة لآدم ألقته على حافة السطح. تشبث آدم بالسور الحديدي المتجمد، والهواء يصفر تحته. فيينا كلها تمتد أمامه، جميلة وقاسية.
"وداعاً يا دكتور،" رفع كلاوس قدمه الآلية ليسحق أصابع آدم.

في تلك الثانية.. 99%.. 100%.
تم الإرسال.
لكن آدم لم ينتظر النجدة. نظر إلى ساعته، وضغط على زر آخر. زر لم يتوقعه كلاوس.
لقد قام آدم، وهو خبير النظام، باختراق "الشبكة العصبية" للشركة عبر برج الإرسال. بدلاً من إرسال البيانات للصحافة فقط، أرسل "إشارة تشويش" عالية التردد لكل الشرائح المزروعة في النطاق.

توقف كلاوس فجأة. بدأ يصرخ ويمسك رأسه. البدلة التي يرتديها مرتبطة بجهازه العصبي. الإشارة جعلت جهازه العصبي يرى كوابيس كل الضحايا في آن واحد.
"أوقفففففها!" صرخ كلاوس وهو يترنح، فاقداً السيطرة على توازنه وعلى البدلة القوية.
تراجع كلاوس للخلف بخطوات غير متزنة، واصطدم بالسياج الضعيف، وسقط.. سقط من ارتفاع شاهق وسط صرخات تلاشت مع الريح، ليتحطم على الجليد في الأسفل.

سحب آدم نفسه إلى السطح، يلهث، والدم يسيل من أنفه بسبب الضغط العصبي.
نزل الدرج بصعوبة، وخرج إلى الحديقة. سمع صوت سارينات الشرطة تقترب من كل مكان. لقد وصلت الرسالة، وانتهت اللعبة.

جلس آدم على مقعد خشبي مغطى بالثلج أمام العجلة الدوارة، يراقب الشرطة وهي تحيط بجثة كلاوس.
اقترب منه ضابط نمساوي، ونظر إليه بشك. "دكتور آدم؟ أنت قيد التحفظ حتى نفهم ما حدث."
أومأ آدم برأسه بصمت. كان يعرف أن حياته كعالم قد انتهت، وربما سيقضي سنوات في المحاكم، لكنه أنقذ الآلاف من التحول لدمى.

أخرج القرط الذهبي الذي وجده، ووضعه في كف الضابط.
"هذا يخص امرأة كانت ترتدي معطفاً أحمر.. ابحثوا عنها، ربما يكون لقصتها بقية."
ثم نظر آدم إلى السماء الرمادية، وتساقطت ندفة ثلج على عينه، فذابت فوراً كدمعة باردة. في عالم التكنولوجيا المجنون، كانت هذه البرودة هي الشيء الوحيد الحقيقي المتبقي.

أُغلقت القضية بعد أشهر، وعُرفت بـ "فضيحة نيورو"، لكن آدم، وهو يجلس في زنزانته يكتب مذكراته، كان لا يزال يرى أحياناً في أحلامه تلك المرأة بالمعطف الأحمر، تنظر إليه لا بخوف، بل بامتنان.. عبر شاشة العقل التي لا تنطفئ أبداً.

روايات اخرى

للكاتب / هيتشكوك مصر

اهداء الى الكاتب الكبير واﻻعلامى العظيم=ابراهيم عيسي ومتابعيه

اهداء للكاتبه الكبيره فريده الحلوانى ومتابعيها

اشترك من هنا قصص لك الروايه اليوميه تابعنا اضغط من هنا👇

👇

👈👉
  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
طريقه نت

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق